فصل: (فرع: استأجر دارًا وقبل مضي المدة اشتراها)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: أجر عبده ثم أعتقه]

وإن أجر عبده، ثم أعتقه قبل انقضاء مدة الإجارة.. صح عتقه؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم يمنع صحة العتق، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ولأنه إذا صح عتق العبد المغصوب.. فلأن يصح عتق العبد المستأجر أولى، وهل يرجع العبد على سيده بأجرة المدة بعد العتق؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يرجع عليه بأجرة المثل لمدة الإجارة بعد العتق)؛ لأنه فوت
عليه بالإجارة ما كان يملكه من منفعة نفسه بعد العتق، فوجب عليه بدلها، كما لو أكرهه على العمل.
وقال في الجديد: (لا يرجع عليه بشيء). وهو الصحيح؛ لأنه تصرف في منافعه تصرفًا كان له، فإذا طرأت الحرية.. لم يملك الرجوع عليه بشيء، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها.
فإذا قلنا بقوله القديم.. كانت نفقة العبد على نفسه بعد العتق.
وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب نفقته على المولى؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه ملك بدل منفعته.
والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجابها على المولى؛ لأنه قد زال عن ملكه. ولا على نفسه؛ لأنه لا يقدر عليها مدة الإجارة.
فإذا قلنا: تجب على المولى.. ففي قدرها وجهان:
أحدهما: تجب عليه نفقته بالغة ما بلغت، لأن من وجبت عليه نفقة شخص بالملك.. وجبت بالغة ما بلغت، كالعبد المملوك.
والثاني: يجب عليه أقل الأمرين من نفقته، أو قدر أجرة مثله؛ لأنها إنما وجبت عليه؛ لاستحقاقه بدل منفعته بعد العتق، فلا يجب عليه أكثر من بدل المنفعة.

.[مسألة: استئجار عين وموت أحد المتكاريين]

إذا استأجر من رجل عينًا، أو استأجره على منفعة، فمات أحد المتكاريين أو ماتا قبل استيفاء المنفعة.. لم تبطل الإجارة، وبه قال عثمان البتي، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
ويقال أبو حنيفة، والثوري، والليث: (تبطل بموت أحدهما).
دليلنا: أنه عقد لازم، فلا يبطل بموت العاقد، كالبيع.

.[مسألة: بيع المؤجر لغير المستأجر قبل استيفاء الزمن]

وإن أجر داره، ثم باعها من غير المستأجر قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البائع لا يمكنه تسليمه إلى المشتري، فلم يصح كالمغصوب.
والثاني: يصح البيع، فإن كان المشتري عالمًا بكونه مستأجرًا.. فلا خيار له. وإن لم يعلم.. فله الخيار، وبه قال مالك، وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم تمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته، ثم باعها.
وقال أبو حنيفة: (البيع موقوف على إجازة المستأجر، فإن أجازه.. صح، وإن رده.. بطل). بناء على أصله في البيع الموقوف، وقد مضى.

.[فرع: أكرى عينًا ثم باعها من المستأجر]

وإن أكرى عينًا وباعها من المكتري قبل أن يستوفي المنفعة.. صح البيع، قولًا واحدًا؛ لأنه ليس هاهنا يد تحول بينه وبين العين المبيعة، وهل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنفسخ، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن الإجارة عقد على منفعة الرقبة، فإذا ملك الرقبة.. بطل العقد على منفعتها، كما لو تزوج أمة، ثم اشتراها.
والثاني: لا تنفسخ الإجارة، وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأنه ملك المنفعة بعقد، والرقبة بعقد، لم يتنافيا، كما لو اشترى الثمرة، ثم اشترى الأصل، ولأن الموصى له بالمنفعة لو أجر منفعته من مالك الرقبة.. لاجتمع للمستأجر ملك الرقبة والمنفعة، ولم تبطل الإجارة، فكذلك هذا مثله، ولأنه لو أجر عينًا من رجل، ثم استأجرها المكري من المكتري.. لصح أن يجتمع له ملك الرقبة والمنفعة، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا بهذا: فتلفت العين قبل انقضاء مدة الإجارة.. لم يبطل البيع؛ لأن المبيع هلك في يد المبتاع، ولكن تبطل الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تبطل فيما مضى؟ على طريقين، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: تبطل.. فهل يرجع المكتري بأجرة المدة بعد البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الإجارة انفسخت لمعنى من جهة المستأجر، فلم يرجع بشيء، كالمرأة إذا ارتدت قبل الدخول.
والثاني: يرجع بأجرة المدة بعد البيع، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لأن الإجارة انفسخت قبل انقضاء مدتها، فرجع بأجرة ما بقي، كما لو تقايلا.
وإن استأجر رجل من أبيه دارًا، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ على الوجهين الأولين.
فإن مات الأب وعليه دين يحيط بالتركة، فإن قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ.. فإن الأجرة تؤخذ من الابن، وتقسم على أصحاب الديون، ولا تباع الدار حتى يستوفي الابن منفعته. وإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ.. فإن أجرة ما بقي من المدة بعد الموت لا تؤخذ من الابن إن كان لم يدفعها، وتؤخذ الدار في الحال، وتباع لحق أصحاب الديون.
وإن كان الابن قد دفع جميع الأجرة إلى الأب.. قال ابن الحداد: رجع الابن هاهنا بأجرة ما بقي من المدة؛ لأنه لا صنع له في انفساخ الإجارة، بخلاف الشراء.

.[فرع: استأجر من أبيه فمات فورثه]

وإن استأجر رجل من أبيه دارًا مدة معلومة، وسلم الأجرة إلى الأب، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة ولا دين عليه، وخلف ابنين أحدهما هذا المكتري، فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة إذا مات الأب ولا وارث له غير المكتري.. لم تنفسخ الإجارة هاهنا في شيء من الدار، ولا يرجع الابن المكتري هاهنا على أخيه بشيء. وإن قلنا هناك: تنفسخ الإجارة.. فإن الإجارة لا تنفسخ هاهنا في نصف الدار الذي ورثه الابن غير
المكتري، ولكن تنفسخ الإجارة في نصفه الذي ورثه الابن المكتري، وهل يرجع الابن المكتري على أخيه بشيء من الأجرة؟
قال ابن الحداد: يرجع عليه بربع أجرة الدار في المدة التي بقيت من الإجارة بعد موت الأب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الإجارة لما انفسخت في نصف الدار.. استحق الابن الرجوع في أجرة ما انفسخت فيه الإجارة، وذلك دين تعلق بتركة الميت، فكان على الابن غير المكتري نصف ذلك بقسطه من الميراث، ألا ترى أن الأجرة التي سلمها الابن لو كانت باقية.. لكانت بينهما نصفين؟ فإذا كانت تالفة.. وجب أن يأخذ من الذي أخذ أخوه من التركة بقسط ما انفسخت فيه الإجارة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على أخيه بشيء؛ لأن الذي انفسخت فيه الإجارة هو النصف الذي ورثه المكتري، فلا يجوز أن يرجع على أخيه بشيء.
قال ابن الصباغ: وما قاله ابن الحداد.. غير صحيح؛ لأنه إذا جعل ما انفسخ فيه العقد من الأجرة بينهما.. فقد ملك المكتري بميراثه نصف الدار بمنفعته. وورث الآخر نصف الدار مسلوب المنفعة. قال: والأولى في ذلك أن يقوم نصيب المكتري بمنفعته، ويقوم نصيب غير المكتري مسلوب المنفعة، ويكون لغير المكتري من التركة ما بين القيمتين، ويكون للمكتري نصف المسمى فيما بقي من المدة من التركة.

.[فرع: استأجر دارًا وقبل مضي المدة اشتراها]

فإن اكترى رجل من رجل دارًا مدة، ثم اشتراها المكتري قبل انقضاء مدة الإجارة، ثم وجد بها عيبًا يرد به المبيع، فردها المشتري، وفسخ البيع، فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإنه يستوفي ما بقي له من الإجارة بعد الرد بالعيب، وإن قلنا بقول ابن الحداد: إن الإجارة تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإن الإجارة لا تعود بالرد بالعيب؛ لأن الإجارة انفسخت حين ملكها بالشراء، فلا تعود الإجارة بالرد بالعيب إلا بعقد جديد.

.[فرع: وجد المكتري في العين عيبًا بعد بيعها من آخر]

وإن اكترى رجل من رجل عينًا مدة، ثم باعها المكري من غير المكتري قبل انقضاء المدة، وقلنا: يصح البيع، فوجد المكتري بالعين عيبًا فردها.. فلمن تكون منفعة العين فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان:
الأول: قال ابن الحداد: تكون للمشتري؛ لأن المنفعة تابعة للرقبة، وإنما استحقها المكتري بعقد، فإذا زال حقه.. عادت إلى مالك العين، كما نقول فيمن زوج أمته من رجل، ثم باعها من آخر، ثم طلقها الزوج، فإن منفعة البضع تكون للمشتري.
والثاني: من أصحابنا من قال: بل تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة للمكري؛ لأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة تلك المدة، فلا يجوز أن يرجع إليه ما لم يملكه، ولأن المكري يستحق عوض المنفعة على المكتري تلك المدة، فإذا سقط العوض.. عاد المعوض إليه.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول من خالف ابن الحداد: يجوز أن يبيع الرجل داره، ويستثنى منفعته مدة معلومة، وعلى قوله فيها: لا يصح.

.[مسألة: أجر الموقوف له العين الموقوفة]

إذا أجر الموقوف عليه العين الموقوفة عليه مدة.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 334]:
أحدهما: لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يملك العين، وإنما يملك منفعتها مدة حياته، ولعله يموت قبل مضي مدة الإجارة، فلم تصح الإجارة، كما لو استعار عينًا من غيره مدة، وأجرها.
والثاني: يصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور؛ لأن منفعة الوقف الآن حق له، فجاز له العقد عليها، كما لو استأجر عينًا، ثم أجرها.
وهذان الوجهان إنما هما إذا جعل الواقف النظر للموقوف عليه، أو لم يجعل الواقف النظر إلى أحد، وقلنا: إن النظر فيه يكون للموقوف عليه.
فأما إذا جعل الواقف النظر في الوقف على أهل البطون إلى رجل، فأجر الوقف عليهم مدة.. صحت الإجارة، وإذا مات أهل البطن الأول.. استحق أهل البطن الثاني أجرة العين من حين انتقال الوقف إليهم، ولا تبطل الإجارة بموت أهل البطن الأول، وجهًا واحدًا.
وأما إذا كان النظر في الوقف للموقوف عليه، فأجر الوقف مدة، وقلنا: تصح، ثم مات الموقوف عليه قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه أجر عينًا ملك عقد الإجارة عليها، فلم تبطل بموته، كما لو أجر عينًا يملكها مدة، ثم مات قبل انقضاء المدة.
والثاني: تبطل بموت الموقوف عليه الأول؛ لأن منافع الوقف بعد موت الأول حق للثاني، فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولاية.
ويفارق إذا أجر ملكه ثم مات؛ لأن الوارث يملك من جهة المورث، وقد زال ملك المورث عن المنفعة، والموقوف عليه الثاني يملك من جهة الواقف، فلا ينفذ عقد الأول.
فإذا قلنا: لا تبطل الإجارة، فإن كان ما يخص البطن الثاني من الأجرة على المكتري لم يقبضه منه الأول.. أخذه منه الثاني، وإن كان الأول قد قبضه من المكتري.. رجع الموقوف عليه الثاني بذلك في تركة الأول؛ لأنه لما لزم الثاني عقد الأول.. لزمه قبضه.
وإذا قلنا: تبطل الإجارة فيما بقي من المدة.. فهل تبطل فيما مضى؟ فيه طريقان:
فـالأول: إذا قلنا: تبطل.. كان للموقوف عليه الأول أجرة المثل؛ لما مضى.
والثاني: إن قلنا: لا تبطل.. ثبت للمكتري وورثة الأول الخيار في فسخ عقد الإجارة، فإن فسخاه أو أحدهما.. كان لورثة الأول أجرة المثل فيما مضى، وإن لم يفسخه واحد منهما.. كان لهم بقسط ما مضى من المدة من المسمى.

.[فرع: بلوغ الصبي يؤثر في الإجارة]

وإن أجر رجل صبيًا له عليه ولاية، أو أجر ماله مدة، ثم بلغ الصبي قبل انقضاء المدة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا تنفسخ، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه عقده في حال ولايته عليه، فصار كما لو زوجه، ثم بلغ.
ومنهم من قال: تنفسخ؛ لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي عليه إلى هذا الوقت.
ومنهم من قال: ينظر فيما عقد عليه الولي من المدة:
فإن تحقق أن الصبي يبلغ قبل انقضائها، مثل: أن يكون له أربع عشرة سنة، فأجره سنتين.. فإنه لا يصح في السنة الأخيرة؛ لأنه يتحقق أنه يبلغ بخمس عشرة سنة، وهل يصح في الأولى؟ على قولين في تفريق الصفقة.
وإن كانت مدة لا يتحقق بلوغه فيها، مثل: أن يؤجره وله أربع عشرة سنة، فبلغ فيها بالاحتلام.. لم تنفسخ الإجارة، وكانت لازمة له.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الوجهين الأولين إنما هما إذا كانت مدة الإجارة لا يتحقق بلوغه فيها، وأما إذا كان يتحقق بلوغه فيها.. فلا يلزم بعقد الولي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يعقد على منافعه طول عمره، ويفارق النكاح؛ لأن النكاح لا يمكن تقدير مدة فيه. وبالله التوفيق

.[باب تضمين المستأجر والأجير]

إذا استأجر عينًا لمنفعة فقبضها، فتلفت في يده مدة الإجارة من غير فعله.. لم يلزمه ضمانها؛ لأنه قبضها لمنفعة يستحقها، فهو كما لو اشترى ثمرة نخلة، فتلفت النخلة حال أخذه الثمرة، وإن تلفت بفعله.. نظرت:
فإن كان فعلًا جائزًا، كضرب البهيمة المعتاد للمشي، وكبحها المعتاد باللجام.. لم يلزمه ضمانها، وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه ضمانها، كما لو ضرب زوجته فماتت).
دليلنا: أن الضرب والكبح المعتاد معنى تضمنه عقد الإجارة، فلم يكن موجبًا للضمان، كالركوب، ويخالف ضرب الزوجة، فإنه كان يمكنه تخويفها وزجرها بالكلام، بخلاف الدابة.
وإن كان فعلًا غير جائز، بأن ضربها ضربا غير معتاد، أو كبحها كبحًا غير معتاد، فماتت.. لزمه ضمانها؛ لأنه متعد بذلك، فلزمه ضمانها كما لو ذبحها.

.[مسألة: استأجر ظهرًا مسافة فزاد عليها]:

وإن اكترى ظهرًا ليركبه من الجند إلى عدن، فركبه إلى عدن، ثم ركبه من عدن إلى أبين.. فإن عليه الأجرة المسماة إلى عدن؛ لأنه ملك ذلك عليه، وعليه
أجرة المثل بركوبه من عدن إلى أبين.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه أجرة المثل لما زاد). بناء على أصله: أن المنافع لا تضمن بالغصب. وقد مضى ذلك.
وقال مالك: (إذا جاوز بها إلى مسافة بعيدة، مثل: أن اكتراها من بغداد إلى واسط، فركبها إلى البصرة.. فصحابها بالخيار: بين أن يطالبه بأجرة المثل، وبين أن يطالبه بقيمتها يوم التعدي).
دليلنا على أبي حنيفةأنه استوفى أكثر مما استحقه، فهو كما لو اشترى من رجل عشرة أقفزة فقبض منه خمسة عشر قفيزًا.
وعلى مالك: لأن العين قائمة، فلا يطالب بقيمتها، كما لو كانت المسافة قريبة.
وأما وجوب ضمان الظهر على المكتري: فإنه يضمنه من حين جاوز من عدن إلى أبين؛ لأنه تعدى بالمجاوزة، فإن رده من أبين إلى عدن.. فإنه لا يزول عنه الضمان حتى يرده إلى يد مالكه أو وكيله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وفرَّقا بينها وبين الوديعة بأنه إذا تعدى فيها، وردها إلى الحرز.. زال عنه الضمان؛ لأن الوديعة مأذون في إمساكها، والظهر غير مأذون له في إمساكه بعد العود.
وقال محمد، وزفر: يزول عنه الضمان في الإجارة إذا رده إلى الموضع الذي اكترى إليه، كما قالوا في الوديعة إذا ردها إلى الحرز.
دليلنا: أنه ضمنها بالتعدي، فلا يزول الضمان عنه بالرد إلى المكان، كما لو غصب عينًا، وردها إلى المكان الذي غصبها منه.
وإن مات الظهر.. نظرت:
فإن مات في المسافة التي استأجر إليها.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه أمانة في يده. وإن مات بعد أن جاوز به المكان الذي استأجر إليه.. نظرت:
فإن كان صاحبها معها، بأن كانا لما بلغا إلى عدن جاوز بها المستأجر إلى أبين وصاحبها ساكت يسير معها.. فإن المكتري لا يضمنها باليد؛ لأن يد صاحبها عليها؛ لأنه لم تزل يده عنها، فهو كما لو سرق الرجل جملًا وعليه خز.. فإنه لا يضمنه.
فإن نزل المستأجر عن الدابة، وتلفت بعد نزوله عنها، أو مضى بها صاحبها لسقيها، فتلتف في يده.. لم يجب على المكتري الضمان؛ لأنها تلفت في يد صاحبها.
وإن تلفت والمكتري راكب عليها.. فالظاهر أنها تلفت من فعلين:
أحدهما: لا يوجب الضمان، وهو ركوبه لها إلى المكان الذي اكترى إليه.
والثاني: يوجب الضمان، وهو ركوبه لها بعد المجاوزة، فيلزمه الضمان، وفي قدر ما يلزمه قولان:
أحدهما: يلزمه نصف قيمته؛ لأن الظهر تلف من جائز وغير جائز، فلزمه نصف قيمتها، كما لو جرحه مالكه، وجرحه المكتري، ومات.
والثاني: تسقط القيمة على المسافتين، فما قابل المسافة التي اكترى إليها.. لا تجب عليه، وما قابل المسافة التي تعدى بها.. تجب عليه؛ لأنه يمكن التقسيط للقيمة عليهما.
وأصل هذه المسألة: إذا أمر الإمام الجلاد أن يجلد رجلًا ثمانين جلدة في القذف، فجلده إحدى وثمانين، فمات المجلود.. فكم يضمن الجلاد؟ على قولين:
أحدهما: نصف الدية.
والثاني: جزءًا من إحدى وثمانين جزءًا من الدية.
وسئل الشيخ أبو حامد عمن سخر رجلًا مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها؟ فقال: لا يضمنها الغاصب؛ لأنها في يد صاحبها.
وأما إذا لم يكن المكري مع الظهر، فتلف الظهر في يد المكتري بعد أن جاوز به المكان الذي اكترى إليه.. فإنه يلزمه جميع قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به إلى أن تلف؛ لأنه تعدى بذلك، وقد تلف في يده، فهو كالغاصب.

.[فرع: اكتريا ظهرًا فركب ثالث]

وإن اكترى رجلان ظهرًا ليركباه، فركباه، وارتدف معهما ثالث بغير إذن، فتلف الظهر.. وجب على المرتدف الضمان؛ لأنه تعدى بذلك. وفي قدر ما يلزمه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه نصف قيمة الظهر؛ لأنه تلف من جائز وغير جائز.
والثاني: يلزمه ثلث قيمته؛ لأن الرجال لا يوزنون، فيقسط على عددهم.
والثالث: تقسط القيمة على أوزانهم؛ لأنه يمكن وزنهم.

.[فرع: اكترى مركبة ليحمل عليها وزنًا معينًا]:

إذا اكترى منه بهيمة ليحمل عليها عشرة أقفزة إلى بلد، فحمل عليها طعامًا، فكيل، فوجد أحد عشر قفيزًا، فإن كانت تلك الزيادة حصلت بفعل المكتري، بأن كان المكتري هو الذي كال الطعام، وحمله على البهيمة، وساقها، فتلفت البهيمة.. فإنه يجب على المكتري الأجرة المسماة لحمل العشرة الأقفزة، ويجب عليه أجرة
المثل بحمل ما زاد على عشرة، كما لو اكتراه إلى بلد، فجاوز به إلى غيره، ويجب عليه جميع قيمة البهيمة؛ لأنها تلفت تحت يده بعدوانه، وإن كان صاحبها معها.. لزم المكتري الضمان؛ لما تعدى به من حمله على البهيمة أكثر مما يستحقه. وفي قدر ما يلزمه من الضمان قولان:
أحدهما: نصف قيمتها.
والثاني: يقسط الزائد، بناء على القولين في الجلاد إذا جلد إحدى وثمانين.
وليس للمكتري أن يطالب المكري برد الزيادة إلى البلد الذي اكترى منه. وأما إن كانت الزيادة حصلت بفعل المكري، بأن فوض المكتري إليه أن يكيل عشرة أقفزة، ويحملها على بهيمة، فكال المكري أحد عشر قفيزًا، وحملها على بهيمته.. فإنه غاصب لما زاد على العشرة؛ لأنه قبضه بغير إذن مالكها، ولا تجب له أجرة بحمله؛ لأنه متطوع بحمله، فإن تلفت البهيمة.. لم يلزم المكتري ضمانها؛ لأنها تلفت بفعل صاحبها، وللمكتري أن يطالب المكري برد ما زاد على العشرة إلى البلد الذي اكترى منه؛ لأنه حمله بغير إذنه، وليس للمكتري إجباره على رده، بل لو اختار إقراره في البلد الذي حمله إليه.. كان له؛ لأنه عين ماله.
وإن لقيه المكتري في البلد الذي حمل منه الطعام.. فهل له أن يطالبه ببدل الطعام إلى أن يرد إليه طعامه؟
نقل المزني: (أن له مطالبته ببدله). وقال في "الأم": (له مطالبته برده). وقد قيل: له المطالبة ببدل الطعام.
ومن أصحابنا من قال: له المطالبة ببدله إلى أن يرد إليه طعامه، كمن غصب من رجل عبدًا، فأبق منه.
ومنهم من قال: ليس له المطالبة ببدله؛ لأن عين ماله باقية يمكن ردها، ويفارق الآبق، فإنه لا يمكن رده، والذي حكاه الشافعي فليس بمذهب له.
وأما إذا كال المكتري أحد عشر قفيزًا، وحملها المكري على بهيمته، ولم يعلم.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن حكمه حكم ما لو كاله المكتري، وحمله على البهيمة؛ لأن التدليس حصل بالكيل؛ لأن المكري لم يعلم به.
والثاني: أن حكمه حكم ما لو كاله المكري، وحمله على البهيمة؛ لأنه مفرط في ذلك، وكان الاحتياط أن لا يحمل إلا بعد المعرفة بقدره.
وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن سم طعامه، وقدمه إلى غيره، فأكله.
قال أبو إسحاق: وهذا إذا كانت الزيادة بحيث يمكن الاحتراز منها، ولا يقع التفاوت فيها بين الكيلين، وأما إذا كانت يسيرة لا يمكن الاحتراز منها، ويقع مثلها في الكيلين، مثل: أن يزيد مكوكًا أو مكوكين.. فلا يكون لها حكم في أجرة ولا ضمان ولا رد؛ لأن ما يقع في المكيال في العادة من الغلط يعفى عنه، كما يعفى عن الغبن الذي يتغابن الناس بمثله في بيع الوكيل.
وإن كانت الزيادة بفعل أجنبي، بأن استأمنه المكتري والمكري على أن يكيل عشرة أقفزة، ويحمله على البهيمة، فكال عليها أحد عشر قفيزًا، وحمله عليها.. فإنه يجب عليه أجرة المثل للزيادة للمكري، ويجب عليه ضمان البهيمة إن تلفت، ويجب عليه رد الزيادة للمكتري إلى البلد الذي حمل منه؛ لأنه تعدى بمال كل واحد منهما، فتعلق لكل واحد منهما حكم التعدي في ماله.